“1” style=”color:#7A8DBC;background-color:#7A8DBC” />
السياسة الشرعية
يرى البعض أن ممارسة السياسة تقدح في إيمان المسلم سواء كان فردا أو جماعة فهل هذا صحيح ؟؟ وهل مارس النبي صلى الله عليه وسلم العمل السياسي في حياته ؟ أم أنه لم يول السياسة أي اهتمام واهتم بتربية المسلمين على الأخلاق والمثل فقط ؟
السياسة جزء من الحياة ،لا يمكن الاستغناء عنها،ولما جاء الإسلام جعل السياسة جزءًا أصيلاً لا يتجزأ ولا ينفصل عن الدين ،فمارس الرسول صلى الله عليه وسلم العمل السياسي منذ الأيام الأولى من الدعوة إلى الإسلام ،كما أنه عقد المعاهدات ،وأبرم الاتفاقات ،أنشأ الصلح ،وساس الأمة بتشريع ودستور لا مثيل له ،ونظم الجيوش التي تدافع عن الأرض والعرض ،وفتح الله على يديه كثيرًا من البلدان ،فقضى بسياسته الحكيمة على مظاهر الفساد والإلحاد ،ووضع بما أوحى الله عليه ،للناس طريقًا مستقيمًا ،يضمن لهم السعادة في الدنيا ،والنجاة في الآخرة.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق رئيس مكتب تحقيق التراث بالكويت:
المقصود بالسياسة في العرف والاصطلاح الشائع اليوم هو: (قيادة الناس والاهتمام بالأمور العامة، وشؤون الحكم، وعلاقات الدول بعضها ببعض).
السياسة من صميم الدين:
ومما لا شك فيه أن موضوع السياسة من صميم الدين، ومن تكاليف رب العالمين لأمة خير الأنبياء والمرسلين. والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، بل هذا من المعلوم من الدين ضرورة، فكل مسلم لا يجوز له أن يجهل أن الإسلام قد جاء لإنشاء أمة، وإقامة نظام ودولة، تقيم العدل، وتحارب الكفر والفساد وتطبق الأحكام، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قد جمع في حياته بين مهمة الدعوة وواجبات الحكم والسيادة، فقد كان هادياً ومبشراً ونذيراً كما كان هناك بعض الأنبياء ممن جمعوا بين ذلك كداود وسليمان، وقد كان كذلك حاكماً وقاضياً، وقائد جيش، بل قد جعله الله مرجعاً للمسلمين في كل شجار وخلاف، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} ولم يجعل الله له مندوحة من ترك تطبيق أحكام الدين حيث يقول له: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} وأمره بتكوين الجيوش والخروج للغزو والقتال ولو بنفسه فقط حيث يقول له: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} (سورة النساء:84).
بل إن الله أمر المؤمنين ألا يغادروا أماكنهم إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أمر جامع غزوة أو غيرها إلا باستئذان كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} (سورة النور:62)، وهذا بالطبع يتنافى تماماً مع القول بأن الرسول مبلغ فقط أو مجرد مرشد أو موجه بل هو قائد مسؤول محاسب أمام الله على تصرفاته في قيادته، ومما يدلك على هذا عتاب الله له لأنه أذن لمجموعة من المسلمين أو المنافقين استأذنته قبل أن يعرف عذرهم، وهل هم صادقون أم كاذبون. قال تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى تعلم الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} (سورة التوبة:43) وكان هذا في غزوة تبوك.
والخلاصة أن النبي كان قائد أمة، وحاكم جماعة، وإمام دولة مع كونه نذيراً للعالمين، وبشيراً للمؤمنين، ومبلغاً للناس أجمعين، ولا شك أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك الناس على هذا الأساس، أعني أنهم أمة قائمة بأمر الله، وأنه لا بد وأن يكون فيهم خليفة يقوم بالأمر من بعده، بل توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد عقد راية لحرب الروم، وعين القائد على ذلك وهو "أسامة بن زيد" وكذلك أمر بإخراج اليهود من جزيرة العرب فقال: [أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب] (رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انظر صحيح الجامع (231)).
وعين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يؤم المسلمين بالصلاة بعده فقال: [مروا أبا بكر فليصل بالناس] (رواه البخاري وأحمد والترمذي وابن ماجة (صحيح الجامع (5742))، وكان هذا منه إعلاناً بأنه الإمام والخليفة بعده على رأي كثير من العلماء ، لأن الصلاة هي ركن الدين الأعظم بعد التوحيد.
كل هذا يدلك على أن إقامة الأمة والدولة والحكم من صلب الدين ومن واجباته الأساسية ولذلك أجمع المسلمون على ذلك في كل عصورهم. وأنه يجب تولية إمام وخليفة وجاء القرآن بذلك، والسنة كذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: [من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية] (رواه مسلم)، وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (سورة النساء:58)، والمقصود هنا أمانة الحكم.
هل مارس رسول الله العمل السياسي قبل الهجرة؟!
وقد يظن ظان أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمارس العمل السياسي إلا بعد الهجرة وإقامة الدولة وهذا خطأ فاحش، لأن العمل السياسي أوسع من مفهوم الحكم، فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم لدعوته يدعو إلى عقيدة مغايرة للمعتقد السائد، ويجمع الناس حول هذا المعتقد، وهذا في حقيقته عمل سياسي حسب مفهوم الناس وعرفهم اليوم، وكذلك أوجد النبي الجماعة السرية، ثم الجماعة العلنية التي تدعو إلى تغيير نظم المجتمع، وعقيدته، وتستخدم كل وسائل الإعلام المتاحة من الاتصال الفردي، والخطبة، والمناداة، والمشاعر الخاصة، والحرب الإعلامية المضادة للفكر والعقيدة الجاهلية السائدة، وهذا كله عمل سياسي، وكذلك لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلب الحماية والنصرة من بعض الكفار كما فعل مع نفر من أشراف الطائف (هم أخوة ثلاثة:عبد ياليل، ومسعود، وحبيب أبناء عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف) في "الطائف" والنجاشي في "الحبشة" حيث كتب له الرسول صلى الله عليه وسلم التماساً بأن يؤوي المسلمين الفارين بدينهم، وكذلك عاهد الرسول الأنصار بعد إسلامهم في "العقبة الثانية" على النصرة، وهذه كلها أعمال سياسية بالمفهوم المعاصر.
وكل هذه الأمور صنعها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر، وبهذا يتبين أن النبي مارس العمل السياسي بالمفهوم العصري لكلمة "سياسة"، ولكن بالطبع حسب الضوابط الشرعية، والسياسية الربانية الإلهية وليس بمسلك السياسة الجاهلية اللادينية.
بل إن أعداءه مارسوا معه أيضاً سياستهم الجاهلية، وتجبرهم وغطرستهم، فقاتلهم الرسول بسياسة الإسلام الربانية المثلى.
والخلاصة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته كان داعياً إلى الله نبياً ورسولاً. ممارساً للسياسة الربانية الإلهية.
نتائج السياسة النبوية:
وكلنا يعلم اليوم النتائج الباهرة للسياسة النبوية الإسلامية، فقد استطاع في عشرين عاماً من دعوته صلى الله عليه وسلم أن يتغلب على جميع العقبات التي اعترضت طريقه، وقد تغلب على المشركين الذين ناوؤه وأخرجوه، وحاربوه، والمنافقين الذين تآمروا ضده، وأفرغوا وسعهم في تعويق حركته وشل رسالته، واليهود الذين حاربوه بالإشاعات والأكاذيب ثم بدسائسهم، ومؤامراتهم، وسيوفهم. وتغلب أيضاً على القبائل الجاهلية، والأعراب والانتهازيين.
واستطاع أن يحدث انقلاباً لا مثيل له في التاريخ قط في عقيدة أمة فينقلها من الشرك إلى التوحيد، ويخلقها -بفضل الله- خلقاً آخر في الأخلاق والصفات والمسلك، والعقيدة، وأن يقضي على آفات عظيمة كانت تتهددهم، كالفرقة، والخمر والميسر والزنا ومئات الشرور الأخرى. وهذه شهادة (دائرة المعارف البريطانية) عن الآثار والنتائج المذهلة التي حققها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حياته:
"جاء محمد بدعوة جديدة هي دعوة الإسلام، وكان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أوفر الأنبياء والشخصيات الدينية حظاً من النجاح، فقد أنجز في عشرين عاماً في حياته ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين من اليهود والنصارى رغم الفترة الزمنية التي كانت تساند هؤلاء، ورغم أنه كان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم تراث أجيال من الوثنية والخرافة والجهل والبغاء والربا والقمار ومعاقرة الخمر واضطهاد الضعفاء، والحروب الكثيرة بين القبائل العربية" أ.هـ (مادة قرآن: دائرة المعارف البريطانية).
بل وأن يهيئ هذه الأمة التي كانت بتلك المثابة لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتخرج من هذه الجزيرة لتحطم عروش الطواغيت جميعاً، وتقيم أعظم أمة عرفتها الأرض على مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمان بل على مدى الزمان كله إلى قيام الساعة عقيدة ومنهجاً وأخلاقاً وديناً.
ومثل هذا النجاح لا مثيل له في التاريخ قط، ولا شك أن ذلك كان بفضل الله أولاً ثم بالسياسة الحكيمة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وأعدائه.
ولا شك أن شرح السياسة النبوية أمر يطول. ولكن المهم هنا أن نذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مارس سياسة شرعية كان من نتائجها هذا النجاح العظيم الذي شرحنا بعض أبعاده وآثاره.
والله أعلم