“1” style=”color:#7A8DBC;background-color:#7A8DBC” />
الرياض – عبدالوهاب عبدالرحمن عروش (جامعة الملك سعود
في السادس من مايو عام 1992م، وفي ريو دي جانيرو (البرازيل)، قرر الاتحاد العالمي للرياضيات إعلان سنة 2024 سنة عالمية للرياضيات، لتكون مناسبة يتم فيها الاحتفاء بدور الرياضيات في مسيرة التطور الحضاري، كما تمكن الرياضيين من التوجه إلى العموم، لتحسين صورة الرياضيات وتبديد مشاعر النفور منها وربما الكره لها، وقبل ذلك كله التوجه إلى أنفسهم لطرح الأسئلة المصيرية عليها حول الدور المستقبلي للرياضيات، وحول عالمية التفكير الرياضي ومساهمة الرياضيات في تنمية التفكير المنطقي. وفي هذا السبيل، يعتزم على المستوى العالمي تنظيم ندوات ومحاضرات «عامة»، وإقامة معارض ومسابقات في الرياضيات وغير ذلك من النشاطات (ما زال باب الاقتراحات مفتوحاً). ولهذا كله فإن الفرصة سانحة للمشتغلين بالرياضيات علماً وتعليماً لكي يدلوا بدلائهم ويبادروا بإقامة نشاطات تواكب هذا الاحتفال الكبير.
وأرى شخصياً أنه من الأجدى التوجه بهذه النشاطات إلى طلاب المدارس لكي «تشرح» لهم الرياضيات: فلسفتها وتاريخها وآلياتها وطبيعتها، وذلك عبر التطرق إلى مواضيع قديمة وأخرى جديدة، ولكن غير مألوفة لدى الطلاب، تتناول مسائل ملموسة بينة الأهمية، وتبيين كيفية حلها في السابق وكيفية تطور المفاهيم التي تتضمنها، وصولاً إلى إدخال شيء من التجريد – بالتدريج وبعيداً عن التعقيد – مع تبيان الحاجة إلى ذلك، وما نجنيه منه من تبسيط في طرح المسألة وفي حلها على حد سواء. أضرب مثالاً على ذلك المعادلات من الدرجة الثانية وكيفية طرحها وحلها من طرف العالم الرياضي الشهير الخوارزمي. فطرحها كان خالياً من الرموز الرياضية لم يكن هناك سين بعد ولا صاد، كما كان يوحي إلى كونها تحل مسائل حقيقية (مالية)، وكان برهانها هندسياً، وقد صيغت في ست معادلات مختلفة وحدتها الصيغة المجردة الحديثة، وهذه إحدى مزايا التجريد!
كل هذا يجعل من المحاضرة دعوة إلى الرياضيات وتقديماً لوجهها الصحيح.
وأغتنم هذه الفرصة لمناقشة موضوع أساسي، ألا وهو سبب هذه الصورة غير المشرقة التي لازمت الرياضيات، وكيف السبيل إلى «تلميعها»؟
لاشك أن أحد الأسباب الكامنة وراء الصورة الاجتماعية الكالحة للرياضيات هو طريقة تدريسها للنشء: طريقة جافة تركز على التلقين والحفظ وتهدف إلى «تعليم العد بدلاً من مفهوم العدد»، فتبدو كأنها شيء مصطنع لا علاقة له بالواقع، وهذا ما يجعل الطالب يستصعبها، فضلاً على أنه لا يرى لها فائدة تجنى، خصوصاً أن الرياضيات لا تقدم نفسها في الحياة اليومية على شكل حل لمعادلة أو حساب لتكامل، الشيء الذي لا يفهمه إلا ذو حظ وافر في هذه المادة، بل تستتر وراء كل إنجاز تقني، خصوصاً في مجتمع الاتصالات الذي نقدم عليه.
لكن هناك أسباباً أخرى لصيقة بجوهر الرياضيات تجعل بعض الناس يستشكلونها، كاختلاف المنطق الرياضي عن المنطق «المألوف»، إذ المنطق الرياضي أشد صرامة حيث يرفض كل نتيجة لم تبن على المناقشة الاستنباطية – الاستنتاج الرياضي – بينما يمكن الإنسان «العادي» الذي لا يحصر نفسه داخل إطار المنطق الرياضي أن يقتنع باستخدام تعميم لحالات خاصة، أو لعدم وجود مثال مضاد. لكن أعود وأقول إن الأمر في النهاية يرجع إلى تعليم الرياضيات وشرح طبيعتها على أنها «بلاد لها قوانينها الخاصة التي تلزم كل من يدخلها، فإذا خرج منها فهو حر في العودة إلى «قوانينه الطبيعية»، على أنه لا مجال للمفاضلة بين قوانين «بلاد الرياضيات» وقوانين «الطبيعية». لهذا كله يجب على تعليم الرياضيات (مرة أخرى) أن ينصف جانباً «لماذا نحصل على هذه النتيجة؟» أمام جانب «كيف نستخدم هذه النتيجة؟»، إذ الرياضيات ليست مجرد وصفات، ليست هذه هي لب الرياضيات، بل قشورها، وإن أي تلقين للرياضيات هو قتل لها، وهذا واقع مع الأسف الشديد، حيث بلغ الأمر درجة «تحفيظ الرياضيات» على غرار المواد الأخرى. لا عجب إذاً إن لم ير للرياضيات من فائدة.
وثالثة الأثافي استخدام الرياضيات كمصفاة لفرز الطلبة في الكثير من التخصصات، حتى لو كانت هذه التخصصات لا تمت إلى الرياضيات بصلة، وذلك نظراً لتزايد أعداد الطلبة وعدم القدرة على استيعابهم، ما زاد الطين بلة وجعل الطلبة يكنون الكره للرياضيات وعمق الإحساس بعدم الحاجة إليها.
قبل الختام أود أن أورد ملاحظتين: الأولى تتلخص في ضرورة وجود طريقة واستعمالها، تمكن مدرسي الرياضيات من النقاش وتبادل الخبرات، كما هو معمول به في سائر البلدان المتقدمة، كما تمكنهم من عرض تجاربهم وآرائهم في هذا الميدان، وخصوصاً في عصر الإنترنت الذي نعيشه. أما الملاحظة الثانية فهي عبارة عن فكرة إيجاد كتاب رياضيات مساند للكتاب المقرر ومكمل له، يدرب الطالب على التفكير الرياضي السليم وعلى حل المشكلات، بعيداً عن التلقين للمهارات الحسابية المجردة، وبأسلوب مشوق قد يتخذ شكل الألعاب والألغاز، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن التدريب على حساب المجاميع يكون أجدى لدى الطالب إذا تم عبر استخدام لغز المربع السحري، لما فيه من الإثارة ومن قدح لزناد الفكر، كما أنه فوق هذا كله ينطوي على وسيلة للتصحيح الذاتي، فكيف للمعلم أن يحرم نفسه وطلابه من وسيلة تعليمية كهذه، ويكتفي بتمارين حسابية ليست لها أهداف هادية ولا إثارة حادية.
نشر في مجلة (المعرفة) عدد (44) بتاريخ (ذوالقعدة 1419هـ -مارس 1999م)