تخطى إلى المحتوى

د. عبدالمجيد حميد الكبيسي : منظومية المدخل التربوي في القرآن الكريم (منظومة التربية القرآنية6)

  • بواسطة

“1” style=”color:#7A8DBC;background-color:#7A8DBC” />


الحلقة السادسة
من

منظومية التربية القرآنية (رؤية منهجية) 6

منظومية المدخل التربوي في القرآن الكريم

د. عبدالمجيد حميد الكبيسي

رابع عشر .منظومية المدخل التربوي في القرآن الكريم :

1.النموذج الخطي والنموذج المنظومي :

يمكن تمثيل دينامية عمل التربية القرانية بأنموذج النظم الأساسي الذي يتكون من المدخلات والعمليات والمخرجات ، ويمكن ضبط عمل المنظومة عن طريق عملية التغذية الراجعة. ومن هنا كان التعامل مع المدخل المنظومي في التربية والتعليم منهجاً فكرياً يرشدنا على نحو نظامي أو نسقي إلى حل المشكلات،وهو ليس مجموعة ثابتة من الإجراءات أو الخطوات المقننة، علينا اتباعها والسير على هداها بحثاً عن حل لمشكلة ما ، بقدر ما هو استراتيجية عامة دينامية تتغير وفق طبيعة المشكلة ، وقد عمل أصحاب وجهة النظر هذه على التفريق بين المدخل المنظومي والمدخل الخطي في التربية والتعليم ،وكان ابرز ما ذكر في هذا المجال عن المدخل الخطي أنه ليس إلا تعاملا محدوداً مع العناصر كل على حده دون مراعاة العلاقات الشمولية بين تلك العناصر، وإذا نظرنا في القرآن الكريم نجد أنه وصف كثيراً من المواقف المرذولة التي تنبئ بمواصفات المدخل الخطي وشنع عليها كالتقليد والتعصب الأعمى واتباع الهوى وغيرها. وقد درج الباحثون على تصوير كل من المدخلين على شكل نموذج كما هو واضح في المخطط (6) والمخطط (7) :

إن القرآن الكريم وهو يعرض الأفكار والمفاهيم والأوامر والنواهي والترغيب والترهيب وإخبار الغيب وإخبار الواقع لم يعرضها مشتتة متفرقة لا تربطها رابطة ، بل جاء مضمونه التربوي وحدة واحدة ومنهجاً مترابطاً شاملاً واضح المعالم يمكن استقراؤه من خلال آياته. وبهذا يتيح القران الكريم للباحث في بلورة بعض معالم هذا المنهج في ضوء رؤية منظومية تستجلي المفاهيم والغايات وتوضح العلاقات ، وتبين كيف بنى هذا القرآن العظيم شخصية الإنسان المؤمن والمجتمع المتحضر .

المخطط ( 7)
نموذج المدخل المنظومي

[COLOR="rgb(139, 0, 0)"]2. تنمية التفكير :[/COLOR]

اعتنى القرآن الكريم عناية خاصة بتنمية التفكير من كل جوانبه ، وركز على العلاقات بين الأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية ، ووضع معايير ضابطة لطاقة التفكير لدى الفرد والمجتمع ، وذلك حرصاً عليها من الضياع والتشتت ، وتوجيهها وجهة صحيحة مرتبطة بالواقع والبيئة التى تحيط بالإنسان ، من اجل مساعدته على التكيف والموائمة فى نفس الوقت حتى يتمكن من القيام بعبء مسؤوليته التى حمّلها الخالق له وهى الاستخلاف فى الأرض وإعمارها، وقد تعرض القرآن فى آياته الكريمات للفارق الواضح بين التفكير الخطى والتفكير المنظومى ، منها على سبيل المثال:

2. 1. فيما يتعلق بالمدخل الخطى فى التفكير:

المدخل الخطى فى التفكير هو منهج التفكير الذي يهتم بالأفكار والحقائق كل على حدة ، ولا يهتم بالعلاقات بين هذه الحقائق والأفكار، ويكون أيضاً منصباً على حفظ المعلومات واستظهارها آلياً دون أن يعير المعانى والمآلات اهتماماً كافياً.

وقد أورد القرآن الكريم صوراً لهذا النوع من التفكير كان المجتمع الجاهلى يعانى منه، حيث ذم القرآن الكريم هذا المنهج فى التفكير ولام أصحابه ووبخهم على سطحية تفكيرهم. ومن هذه الآيات قوله تعالى فى وصف الذى يتمسك بالعادات وموروث الأجداد ويبرر خطأ لأنه وجد أباء يفعلون ذلك: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا} (الأعراف: 28)، وكذلك تمسكهم بعبادة الأصنام والأوثان لأنهم وجدوا آبائهم على هذا الحال وساروا على نهجهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22)، وفى كل الأحوال فقد وبخهم القرآن على هذا النوع من التفكير، قال تعالى فى حق الذين يتمسكون بما وجدوا عليه آبائهم ولم يقبلوا بالدعوة الجديدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170)، ففيه لفت نظر لهؤلاء الذين يتمسكون بما وجدوا عليه آبائهم ، وتذكير لهم باحتمال وقوع آبائهم فى الضلالة وعدم الهدى فما الذى يحملهم على إتباعهم؟

وهناك مواقف شبيهة كثيرة لما كان أصحابها لا يتجاوزن هذا المنحى الخطى فى التفكير فوقعوا فى الضلالة. ومن ذلك قوله تعالى فى وصف بنى اسرائيل فى حادثة العجل: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (البقرة: 93)، وقال فى سياق حواره مع عبده الأصنام وقد كشف لهم عوار ما كانوا يعبدون إلا أنهم أصروا على عاداتهم واستهجنوا ما دعوا إليه وردوا رداً أحمقاً فقال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (الأعراف: 70 – 71)،

لقد بين لهم هذا الخطاب أن معبوداتهم هى الأسماء التى أطلقوها على الحجارة وغيرها ولا يعقل أن يكونوا يعبدون المادة التى صنع منها هذه الأصنام، فإنه لا يقبل عاقل ذلك، فهى حجارة لا تضر ولا تنفع ولا تملك لنفسها من الأمر شيئاً، إذن فإنهم أطلقوا عليها أسماء مثل اللات والعزى وهبل، وهم فى الحقيقة يعبدون هذه الأسماء وهى من صنعهم، وهم فى منهجهم هذا يتعصبون لاعتقاداتهم ولموروثاتهم ولا يقبلون التوجه نحو العلاقات والمآلات التى تجلوا لهم الأمر، وتوضح لهم موقع ما حرصوا عليه بين معطيات هذا الوجود الواسع ، فحل عليهم الرجس وحل عليهم الغضب لفعلهم هذا، وباختصار فإن أبرز صفات هذا المنحى كما هو واضح من الآيات التعصب الذي يعمى عن الحقيقة ، فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور كما تبرز تمسكهم بالعادات، وعدم الموضوعية في التفكير.

2. 2. فيما يتعلق بالمدخل المنظومي:

أما المدخل المنظومي فهو منهج التفكير الذي يهتم بالوقائع جميعاً ودون استثناء وبنفس الدرجة والمستوى، فهو ينظر إلى الوقائع وعلاقاتها التشعبية بين الأجزاء ومع الكل. والقرآن الكريم ينهج هذا المنهج في الخطاب وفي التربية العقلية والنفسية للإنسان ، فهو يبحث في الأسباب وفي الأغراض ويحث على التأمل والاستنباط ، وهما جانبان يسمحان للإنسان أن يرتفع من الأهداف إلى القوانين والنواميس ، ومن ناحية أخرى أن يرتفع من غايات بسيطة إلى غايات أسمى حتى يلحق بضالته أمام اللانهاية لهذه الإجراءات.

إن أي القرآن الكريم جميعها تحفز المخاطب دائماً للبحث في العلاقات ،وتعرض له كل الوقائع والأحداث والظواهر التي تؤلف فيما بينها نسيجاً من العلاقات ذات الصلة بالهدف أو الغرض الذي من أجله سيقت هذه الآيات ، فهي تدعو إلى التفكير والنظر وإعادة النظر والتأمل والتقليب وتثير أشجان النفس وإعجابها .

ولننظر الآن على سبيل المثال في بعض النصوص وكل القرآن على شاكلتها: قال تعالى : {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5)}. (الرعد: 1 – 5).
إذا أمعنا النظر في هذه الآيات من سورة الرعد نجد أنها تشكل وحدة واحدة من أولها إلى آخرها ،هدفها إثبات العلاقة الخالقية لهذا الوجود ،وأن هذا الكون والإنسان والحياة مخلوقات لخالق مدبر للخلق وقادر على الخلق وإعادة الخلق ، فهي دعوة للإيمان بالخالق والتدبير والحياة والموت، وقد استخدمت لإظهار ذلك فنون اللغة لتوضيح العلاقات بين الظواهر وبينها وبين الإنسان ، وبالتالي لتصب جميعها في علاقة واحدة هي علاقة الخالقية بالمعنى المطلق، وهي لا تفتأ تذكر المخاطبين بين الحين والآخر بضرورة استخدام أدوات الفهم كالتفكير المستمر والعقل وبالتالي التصديق الجازم (يتفكرون – يعقلون – يؤمنون).
ومن جملة ما لفت الانتباه في هذه الآيات فاتحة السورة والتي تتعلق بمعجزة القرآن الكريم والذي آياته مؤلفة من مثل هذه الحروف (أ ل م ر) ، ووصف القرآن بأنه الحق، ووصف الإنسان بأنه نزّاع إلى الكفر مع وجود هذه الآيات ، وتعتبر الآية الأولى مقدمة وملخصاً لما جاء في بقية الآيات ، فعلاقة السماء بالأرض وعلاقة الاستواء على العرش لخلقه ، وعلاقة الشمس بالقمر وعلاقتهما معاً بالزمن ، وعلاقة الأرض الممتدة بذلك ، وفائدة الجبال الرواسي والأنهار والثمرات المختلفة، وأثارت الآيات موضوعاً هاماً جداً قامت عليه الحياة وهو ثنائية الخلق ، فوجود الأزواج وتقابلها هو بفعل الله، وتمتد هذه الثنائية في كل شئ، فهي سبب اختلاف الثمرات بغض النظر عن الأرض الواحدة والنوع الواحد، والشجرة الواحدة والماء الواحد .
والباحثون في مضمون هذه الآيات كثيرون فبعضهم يبحث عن الإعجاز اللغوي في الحروف والكلمات ومواقعها والطباق والجناس والحذف والمقابلة والفاصلة.. الخ، فيلفت انتباههم مثلاً لفظ التسخير وهو قهر المخلوقات وإرغامها على النواميس الكونية التي هي من إرادته وخلقه ، وهي مسخرة لمصلحة من؟ هل هو الإنسان أم الكائنات الحية جميعها؟ كما يلفت انتباهم استخدم لفظ الزوجين الاثنين ، فما المقصود بالزوجين في الذرة والجزئ والخلية الحيوانية وعدد الكروموسومات ، ودور الزوجين في التكاثر وفي التنوع وفي الاختلاف ، وهل ينطبق هذا المفهوم على الليل والنهار والأرض الممتدة والجبال الرواسي.. الخ.
إن الأمر متروك لعالم الفيزياء وعالم الأحياء وعالم الجغرافيا وعالم الفلك، وعالم اللغة وعالم الفقه وعالم التربية ، فكل يجد له فيها نصيب ولفظ يغشى الليل النهار فكيف يكون الأغشاء ، وما علاقة ذلك بدوام الليل في خارج جو الأرض ، وما علاقة ذلك بتدرج النهار من فجر إلى صبح إلى ظهر.. إلى غير ذلك، ويأتي عالم الفلك فيتتبع حركة الشمس والقمر ومدتها وعلاقتها بالزمن الذي يستخدمه الإنسان ، ويبحث الجغرافي في معنى امتداد الأرض وفي إشارة لشيئين: أن الأرض كروية وإشارة النص القرائي لذلك قبل 14 قرناً وبدون أدوات رصد أو نظريات سابقة، فقد سبق كل النظريات التي تحدثت عن ذلك ، ويأتي عالم الأحياء ليدرس ظواهر اختلاف النبات واختلاف الثمرات بالرغم من الأرض الواحدة والماء الواحد، وبعضه يصلح للأكل وبعضه لا يصلح.

ومن الواضح الجلي أن كل هذه العلاقات التنظيمية الظاهرة بين الأشياء وما بينها من توافق واختلاف أنها تعلن بصراحة عن أنها يجب أن تكون مخلوقة لخالق ، وأن مريد قادر أوجد كل الصور المتناقضة والمختلفة ، ولم يعجزعن ذلك فكيف يعجز عن أحياء الموتي ، وهو الذي خلق الحياة الدنيا فكيف يعجز عن خلق الحياة الأخرى، فبالرغم مما تقدم من أدلة يجب أن تقود التفكير إلى اليقين، فهي أدلة واضحة وحجج دامغة، ومع ذلك فإن هناك من لايؤمن وهذا أمر عجيب ويستحق صاحب هذا النوع من التفكير العقاب الشديد.

د. عبدالمجيد حميد الكبيسي

للبحث صلة

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.